كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعطفت جملة {والنجم والشجر يسجدان} ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين، فالإِخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإِيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بَعد ذكر الشمس والقمر، كان ذلك مقتضيًا سلوك طريقة الوصل بالعطف بجامع التضاد.
وجُعلت الجملة مفتَتَحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت هي عليها.
وأتي بالمسند فعلًا مضارعًا للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال} [الرعد: 15].
و{النجم} يطلق: اسمَ جمع على نجوم السماء قال تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1]، ويطلق مفردًا فيُجمع على نجوم، قال تعالى: {وإدبار النجوم} [الطور: 49].
وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء.
ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سُوق له فهو متصل بالتراب.
وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له.
والشجر: النبات الذي له ساق وارتفاعٌ عن وجه الأرض.
وهذان ينتفع بهما الإِنسان والحيوان.
فحصل من قوله: {والنجم والشجر يسجدان} بعد قوله: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة.
والسجود: يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم، ويطلق على الوقوع على الأرض مجازًا مرسلًا بعلاقة الإِطلاق، أو استعارة ومنه قولهم: (نخلة ساجدة) إذا أمالها حِمْلُها، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنوّ أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه، ففعل {يسجدان} مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بأن شبه ارتسام ظِلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طَوعًا وكرهًا وظِلالهم بالغدوّ والآصال} في سورة الرعد (15)، وكما قال امرؤ القيس:
يَكُبُّ على الأذ ** قان وْحَ الكَنَهْبَلِ

فقال: على الأذقان، ليكون الانكباب مشبهًا بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية، وذكر الأذقان تخييل، وعليه يكون فعل {يسجدان} هنا مستعملًا في مجازه، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عِدَّةً على أن الله مُوجدها ومُسخرها، ففي جميعها دلالات عقلية، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال.
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)}.
اطّرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يُشبه الضدين بعد مقابلةِ ذِكر الشمس والقمرِ بذِكر النجممِ والشجر، فجيء بِذكر خلق السماء وخلق الأرض.
وعاد الكلام إلى طريقة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله: {الرحمن علم القرآن} [الرحمن: 1، 2]، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه.
ورفع السماء يقتضي خلقَها.
وذُكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب.
ومعنى رفعها: خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط: وسّع جيب القميص، أي خِطْه واسعًا على أن في مجرد الرفع إيذانًا بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه، ولأنها مكان الملائكة، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها.
و{الميزان}: أصله اسمُ آلة الوزن، والوزن تقديرُ تعادُللِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن، وقد تقدم في قوله تعالى: {والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه} في سورة الأعراف (8)، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس.
والميزان هنا مراد به العدل، مثل الذي في قوله تعالى: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] لأنه الذي وضعه الله، أي عيّنه لإِقامة نظام الخلق، فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإِنزال في قوله: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان}.
ومنه قول أبي طلحة الأنصاري «وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بئرحاءٍ وأنها صدقة لله فضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراكَ الله» أي اجعلها وعينها لما يدُلُّك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضِدية وإيهامُ طباق مع قوله: {رفعها} ففيه محسِّنان بديعيان.
وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهًا بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} في سورة يونس (5)، وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} في سورة الحجر (85)، وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} في سورة الدخان (38، 39).
وهذا يصدّق القول المأثور: بالعدل قامت السماوات والأرض.
وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان.
و(أنْ) في قوله: {ألا تطغوا} يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل.
وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيرُه بحرف (أنْ) التفسيرية.
فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيرًا لذلك.
فتكون (لا) ناهية.
ويجوز أن تكون (أنْ) مصدرية بتقدير لاَم الجر محذوفة قبلَها.
والتقدير: لئلا تَطْغَوْا في الميزان، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة.
وتكون (لا) نافية، وفعْل {تطغوا} منصوبًا بـ (أن) المصدرية.
ولفظ {الميزان} يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه.
وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل {وضع} وفعلي {لا تَطْغَوْا} و{أقيموا} وحرف الباء في قوله: {بالقسط} وحرف {في} من قوله: {في الميزان} ولفظ {القسط}، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن.
والطغيان: دحض الحق عمدًا واحتقارًا لأصحابه، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم.
ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه.
و{في} من قوله: {في الميزان} ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية في قوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء: 5]، أي ارزقوهم من بعضها وقول سَبرة بننِ عَمْرو الفقعسي:
سَبرةَ بننِ عَمْرو الفقعسي ** ونَشرب في أثمانها ونُقامر

إذْ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت:
نُحابي بها أكفاءنا ونُهينُها

وقوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} عطف على جملة {ألا تطغوا في الميزان} على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية.
وعلى جملة {ووضع الميزان} على احتمال كون المعطوف عليها تعليلًا.
والإِقامة: جعل الشيء قائمًا، وهو تمثيل للإِتيان به على أكمل ما يراد له وقد تقدم عند قوله: {ويقيمون الصلاة} في سورة البقرة (3).
والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس.
والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: قسط، وتقدم في قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} في سورة الأنبياء (47).
والباء للمصاحبة.
والمعنى: اجعلوا العدل ملازمًا لما تقوّمونه من أموركم كما قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام: 152] وكما قال: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا} [المائدة: 8]، فيكون قوله: {بالقسط} ظرفًا مستقرا في موضع الحال، أو الباء للسببية، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل، فيكون قوله: {بالقسط} طرفًا لغوًا متعلقًا، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1 3].
فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله: {ولا تخسروا الميزان} فإن حُمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيهًا على شدة عناية الله بالعدل، وإنْ حُمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين (3) {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} والإِخسار: جعل الغير خاسرا والخسارة النقص.
فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإِخسار جعل صاحب الحق خاسرًا مغبونًا؛ ويكون {الميزان} منصوبًا على نزع الخافص، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإِخسار بمعنى النقص، أي لا تجعلوا الميزان ناقصًا كما قال تعالى: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} [هود: 84]، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل.
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}.
عطف على {والسماء رفعها} [الرحمن: 7] وهو مقابلُهُ في المزاوجة والوضع يقابل الرفع، فحصل محسِّن الطباق مرتين، ومعنى {وضعها} خفضها لهم، أي جعلها تحت أقدامهم وجُنوبهم لتمكينهم من الانتفاع بها بجميع ما لهم فيها من منافع ومعالجات.
واللام في {للأنام} لَلأجْل.
والأنام: اختلفت أقوال أهللِ اللغة والتفسير فيه، فلم يذكره الجوهري ولا الراغب في (مفردات القرآن) ولا ابن الأثير في (النهاية) ولا أبو البقاء الكفوي في (الكليات).
وفسره الزمخشري بقوله: الخلق وهو كل ما ظهر على وجه الأرض من دابة فيها روح.
وهذا مروي عن ابن عباس وجمععٍ من التابعين.
وعن ابن عباس أيضًا: أنه الإِنسان فقط.
وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وسياق الآية يرجح أن المراد به الإنسان، لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر كقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29].